فصل: تفسير الآية رقم (70)

مساءً 10 :11
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر‏}‏ أي قل لهم تقريراً بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية، والمراد من ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول‏.‏ والعرب كما قال الزجاج تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة يوم مظلم حتى أنهم يقولون‏:‏ يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وأنشد‏:‏ بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذاكان يوم ذو كواكب أشهب

ومن الأمثال القديمة رأى الكواكب ظهراً أي أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهاراً، ومن ذلك قول طرفة‏:‏ إن تنوله فقد تمنعه *** وتريه النجم يجري بالظهر

وقيل‏:‏ المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر، وقيل‏:‏ ظلمة البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه، والظلمات على الأول‏:‏ كما قيل استعارة وعلى الأخيرين حقيقة‏.‏ ومنهم من جعلها كناية عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم‏.‏ ومن جوز جمع الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل والغيم والبحر والتيه والخوف وقرأ يعقوب وسهل ‏{‏يُنَجّيكُمْ‏}‏ بالتخفيف من الإنجاء والمعنى واحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَدْعُونَهُ‏}‏ في موضع الحال من مفعول ‏{‏يُنَجّيكُمْ‏}‏ كما قال أبو البقاء، والضمير لمن أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له‏.‏ وجوز أن يكون حالاً من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم ‏{‏تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ أي إعلاناً وسراراً كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فنصبهما على المصدرية، وقيل‏:‏ بنزع الخافض، والإعلان والاسرار يحتمل أن يراد بهما ما باللسان ويحتمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب، وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ أي معلنين ومسرين‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏خفية‏}‏ بكسر الخاء وهو لغة فيه كالأسوة والإسوة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا‏}‏ في محل النصب على المفعولية لقول مقدر وقع حالاً من فاعل ‏(‏تدعون‏)‏ أيضاً أي قائلين‏:‏ لئن أنجيتنا، والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون من غير تقدير والصحيح التقدير، وقيل‏:‏ إن الجملة القسمية تفسير للدعاء فلا محل لها‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏أنجانا‏}‏ بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصماً قرأ بالتفخيم والباقون بالأمالة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ هذه‏}‏ إشارة إلى ما هم فيها المعبر عنها بالظلمات ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو جميع النعم التي هذه من جملتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ‏}‏ أي غم يأخذ بالنفس، والمراد به إما ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام، وأمره صلى الله عليه وسلم بالجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بظهوره وتعينه أو للإهانة لهم مع بناء قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعدما تشاهدون هذه النعم الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد‏.‏ ووضع ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب لوعدهم السابق المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏(‏الأنعام؛ 63‏)‏ للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأساً إذ التوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة، وقيل‏:‏ لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله تعالى بالعبادة فذكر الإشراك في موقعه، وكلمة ثم ليس للتراخي الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم، ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه‏.‏ وقرأ أهل الكوفة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر ‏{‏يُنَجّيكُمْ‏}‏ بالتشديد والباقون بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لهؤلاء الكفار ‏{‏هُوَ القادر‏}‏ لا غيره سبحانه ‏{‏على أَن يَبْعَثَ‏}‏ أي يرسل ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق بيبعث‏.‏ وتقديمه على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَذَاباً‏}‏ للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر، والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم في المهالك إثر بيان أنه سبحانه هو المنجى لهم منها، وفيه وعيد ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور، والتنوين للتفخيم أي عذاباً عظيماً‏.‏

‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ أي من جهة العلو كالصيحة والحجارة والريح وإرسال السماء ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ أي من جهة السفل كالرجفة والخسف والإغراق، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ من فوقكم أي من قبل أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم‏.‏ وفي رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء والمتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين‏.‏ والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضاً، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لعذاب‏.‏ و‏(‏ أو‏)‏ لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معاً كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ‏}‏ أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر، وخلط أمرهم عليهم بجعلهم مختلفي الأهواء، وقيل‏:‏ المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض فلا تقدير، وعليه قول السلمي‏:‏ وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي

وقرىء ‏{‏يَلْبِسَكُمْ‏}‏ بضم الياء وهو عطف على ‏{‏يَبْعَثَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شِيَعاً‏}‏ جمع شيعة كسدرة وسدر وهم كل قوم اجتمعوا على أمر نصب على الحال، وقيل‏:‏ إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه، وجوز على هذا أن يكون حالاً أيضاً أي مختلفين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ عطف على ‏{‏يَبْعَثَ‏}‏ كما نقل عن السمين، ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف التفسير أو من عطف المسبب على السبب‏.‏ وقرىء ‏{‏نذيق‏}‏ بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير‏.‏ والبعض الأول على ما قيل الكفار والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد، وقيل‏:‏ كلا البعضين من الكفار أي نذيق كلاً بأس الآخر؛ وقيل البعضان من المؤمنين فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ هذا للمشركين وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ‏}‏ الخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم الكريم، ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون الأول، وأخرج ابن جرير عنه أيضاً أنه قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ فسأل ربه عز وجل أن لا يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إنك سألت ربك أربعاً فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة استجمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء عليهم السلام» وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال‏:‏ يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدواً من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضاً وبعضهم هو يسبي بعضاً» الحديث‏.‏

وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سألت ربي أربعاً فأعطاني ثلاثاً ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» والأخبار في هذا المعنى كثيرة‏.‏ وفي بعضها دلالة على عد اللبس والإذاقة أمراً واحداً وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين، ومن هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف، وأيد بعضهم العطف على يلبس لا على ‏{‏يَبْعَثَ‏}‏ بكونه بالواو دون أو‏.‏ ولا يعارض ما روي عن الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية‏:‏ أما أنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد، وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب أنه قال في الآية‏:‏ هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات‏}‏ أي نُحَوِّلها من نوع آخر من أنواع الكلام تقريراً للمعنى وتقريباً إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏ أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد، واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق للخير والشر، «وقال بعض الحشوية والمقلدة‏:‏ إنها من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق والاختلاف المذموم بحكم الآية» وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ‏}‏ أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن، وقيل‏:‏ الضمير لتصريف الآيات، واختاره الجبائي والبلخي‏.‏ وقيل‏:‏ هو للعذاب واختاره غالب المفسرين ‏{‏قَوْمِكَ‏}‏ أي قريش، وقيل‏:‏ هم وسائر العرب، وأياً ما كان فالمراد المعاندون منهم، قيل‏:‏ ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عتوهم ومكابرتهم، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مراراً‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة‏.‏ والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور، وقيل‏:‏ الواو استئنافية وبعدها مستأنفة‏.‏ وأياً ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها‏.‏

‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أي ‏(‏بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لأجازيكم بها‏)‏ إنما أنا منذر ولم آل جهداً في الإنذار والله سبحانه هو المجازي قاله الحسن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المراد إني لم أومر بحربكم ومنعكم عن التكذيب وفي معناه ما نقل عن الجبائي‏.‏ والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على المعنى الثاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ‏}‏ أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ أي وقت استقرار ووقوع ألبتة أو وقت استقراره بوقوع مدلوله وليس مصدراً ميمياً‏.‏ ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، و‏(‏ سوف‏)‏ للتأكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول‏.‏ وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم ذلك أيضاً، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق، وهذا بخلاف النسيان الآتي، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه، وقال الطبرسي‏:‏ «الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين»، وقال بعض المحققين‏:‏ أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن للذم‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي أتركهم ولا تجالسهم ‏{‏حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ‏}‏ أي كلام ‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ أي غير آياتنا‏.‏ والتذكير باعتبار كونها حديثاً فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، وقيل‏:‏ باعتبار كونها قرآناً‏.‏ والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء‏.‏ وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر ‏{‏يَخُوضُواْ‏}‏ للمشاكلة، واستظهر عود الضمير إلى الخوض‏.‏ واستدل بعض العلماء بالآية على أن ‏{‏إِذَا‏}‏ تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كلما خاض، ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق‏.‏ واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعماً أن ذلك خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه‏.‏

‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان‏}‏ بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها‏.‏ وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل‏:‏ لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن النسيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ وأن غيرهم ذهب إلى جوازه وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب «الأحكام» والجبائي وغيرهما‏.‏ وقال الأخير‏:‏ إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك‏.‏ والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي، وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال الدين‏.‏

وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلاً بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك‏.‏

وإليه مال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام‏.‏

وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور‏.‏ وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فيجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال‏:‏ والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال‏:‏ يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمداً ولا سهواً لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سِيَره صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتنى بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك‏.‏ وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الآية‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏يُنسِيَنَّكَ‏}‏ بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية‏:‏ نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل‏:‏ لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد

‏:‏ أما ترى رأسي حاكي لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجى

‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى‏}‏ أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء‏.‏ وجوز الزمخشري أن تكون ‏{‏الذكرى‏}‏ بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى «وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه»، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقاً، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال وإن أنساك دون ‏{‏أَمَّا يُنسِيَنَّكَ‏}‏ على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه‏.‏

‏{‏مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء، موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية كما قال غير واحد إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلاً بخلاف التكليف بالمحال‏.‏ ونقل ابن برهان في «الأوسط» عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل‏.‏ وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون وارداً بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون وارداً قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزام الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به‏.‏ وصاحب «المنهاج» تبعاً لصاحب «الحاصل» أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام البحث يطلب من «كتب الأصول2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ‏}‏ قال أبو جعفر عليه الرحمة‏:‏ لما نزلت ‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ الخ قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت، أي وما يلزم الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم‏.‏ ‏{‏مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ أي شيء ما على أن ‏(‏من‏)‏ زائدة للاستغراق و‏{‏شَىْء‏}‏ في محل الرفع مبتدأ و‏(‏ ما‏)‏ تميمية أو اسم لها وهي حجازية و‏{‏مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالاً‏.‏ وليست ‏{‏مِنْ‏}‏ بمعنى الأجل خلافاً لمن تكلفه‏.‏ و‏{‏عَلَى الذين يَتَّقُونَ‏}‏ متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبراً للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقاً أو منصوب وقع خبراً لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفاً أو حرف جر‏.‏

‏{‏ولكن ذكرى‏}‏ استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير، ومحل ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيراً أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضاً لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى‏:‏ ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى‏.‏

واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول‏:‏ إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتة بحكم الاستعمال تقول‏:‏ ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكباً أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم ألبتة ولم يجيء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا‏:‏ والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزأ من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً فَلا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ على ما في «شرح المفتاح»، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك‏:‏ جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش‏.‏

وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين مما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي‏:‏ إن أهل اللسان والأصوليين يقولون‏:‏ إن العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت‏:‏ ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيداً بيوم الجمعة‏.‏ وإذا قلت‏:‏ وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قيده والآية من القبيل الأول فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر‏.‏ ومن منع العطف على محل ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ لما تقدم منع العطف على ‏{‏شَىْء‏}‏ لذلك أيضاً ولأن ‏(‏من‏)‏ لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقاً عند الجمهور‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم‏.‏ وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك‏.‏ وهذه الآية كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ الخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي «الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ» أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين‏}‏ الخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ‏}‏ الذي فرض عليهم وكلفوه وأمروا بإقامة مواجبه وهو الإسلام ‏{‏لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ حيث سخروا به واستهزأوا، وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئاً من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك أو اتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الذين لأهل الأديان شيئاً من اللعب واللهو‏.‏ وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو ديناً، وقيل‏:‏ المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى الدين العادة والعيد معتاد كل عام ونسب ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على سائر الأقوال لا تبال بهؤلاء وامص لما أمرت به‏.‏

وأخرج ابن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏، وقيل‏:‏ المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم‏.‏ والآية عليه منسوخة بآية السيف، وهو مروي عن قتادة‏.‏ ونصب ‏{‏لَعِباً‏}‏ على أنه مفعول ثان لاتخذوا وهو اختيار السفاقسي، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ ثان، وفيه إخبار عن النكرة بالمعرفة‏.‏ ويفهم من كلام الإمام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فإنه قال بعد سرد وجوه التفسير في الآية‏:‏ «والخامس وهو الأقرب أن ‏(‏المحق‏)‏ في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو‏.‏ فالمراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا‏}‏ الخ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه‏.‏ وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية» اه‏.‏ ولا يخفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائلة‏.‏

‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏ أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزأوا بآيات الله تعالى‏.‏ وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة وعليه قوله‏:‏ ولما التقينا بالعشية غرني *** بمعروفه حتى خرجت أفوق

‏{‏وَذَكّرْ بِهِ‏}‏ أي بالقرآن‏.‏ وقد جاء مصرحاً به في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير لحسابهم، وقيل‏:‏ للدين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ضمير يفسره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ فيكون بدلاً منه واختاره أبو حيان‏.‏ وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل‏.‏

ومنهم من جعله مفعولاً به لذكر‏.‏ ومعنى ‏{‏تُبْسَلَ‏}‏ تحبس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأنشد له قول زهير‏:‏ وفارقتك برهن لافكاك له *** يوم الوداع وقلبي مبسل علقاً

وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم‏.‏ وروي ذلك أيضاً عن الحسن ومجاهد والسدى واختاره الجبائي والفراء، وفي رواية ابن جرير وغيره تفضح‏.‏ وقال الراغب‏:‏ ‏{‏تُبْسَلَ‏}‏ هنا بمعنى تحرَمَ الثواب‏.‏ وذكر غير واحد أن الإبسال والبسل في الأصل المنع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه، وجاء البسل بمعنى الحرام‏.‏ وفرق الراغب بينهما «بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع ‏(‏منه‏)‏ بالقهر»، ويكون بسل بمعنى أجل ونعم، واسم فعل بمعنى أكفف‏.‏ وتنكير ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ للعموم مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏ أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك، وحمل النكرة على العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له، وقيل‏:‏ إنها هنا في النفي معنى، وفيما اختاره أبو حيان من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهَا‏}‏ أي النفس ‏{‏مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٍ‏}‏ إما استئناف للإخبار بذلك أو في محل رفع صفة ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ أو في محل نصب على الحالية من ضمير ‏{‏كَسَبَتْ‏}‏ أو من ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ فإنه في قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية‏.‏ ومن ‏{‏دُونِ الله‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالا من ‏{‏وَلِيُّ‏}‏، وقيل‏:‏ خبراً لليس، و‏{‏لَهَا‏}‏ حينئذ متعلق بمحذوف على البيان، ومن جعلها زائدة لم يعلقها بشيء، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع‏.‏

‏{‏وَإِن تَعْدِلْ‏}‏ أي إن تفد تلك النفس ‏{‏كُلَّ عَدْلٍ‏}‏ أي كل فداء‏.‏ و«كل» نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل‏:‏ إنه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك‏:‏ هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية والتقدير عدلاً كل عدل‏.‏ ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتاً لا توكيداً كما في «التسهيل» ولا يجوز حذف موصوفة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ جواب الشرط، والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا عَدْلٍ‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ فإنه فيه بمعنى المفدى به، وجوز كون الإسناد إلى ضميره مراداً به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور، وبذلك يستغنى أيضاً عن القول بكونه راجعاً إلى المعدول به المأخوذ من السياق‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي المتخذون دينهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا ‏{‏الذين أُبْسِلُواْ‏}‏ أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للإبسال ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة‏.‏ واسم الإشارة مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ‏}‏ استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل‏:‏ ماذا لهم حين أبسلوا‏؟‏ فقيل‏:‏ لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم ‏{‏وَعَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا، ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في «القاموس»‏.‏ وجوز أبو البقاء أن تكون جملة ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏أُبْسِلُواْ‏}‏ وان تكون خيراً لاسم الإشارة ويكون ‏{‏الذين‏}‏ نعتاً له أو بدلاً منه‏.‏ وأن تكون خبراً ثانياً‏.‏ واختار كما يشير إليه كلامه أن تكون الإشارة إلى النفوس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة الإبسال‏.‏ واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه‏.‏ وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينطق به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ لأنه العمدة في أيجاب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد كما قيل بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين‏:‏ اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ الخ‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام‏.‏ وفي توجيه الأمر إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا أن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك‏.‏

وفاعل ‏{‏نَدْعُواْ‏}‏ وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنُرَدُّ على أعقابنا‏}‏ عام لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولغيره وليس مخصوصاً بالصديق رضي الله تعالى عنه بناء على أنه سبب النزول‏.‏ وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك‏.‏ والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال‏:‏ رجع على عقبه إذا انثى راجعاً‏.‏ ويكنى به كما قيل عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال؛ وقيل‏:‏ الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل، شركاً أو غيره‏.‏ والجمهور على الأول‏.‏ والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب كما قال شيخ الإسلام لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر‏.‏ وإيثار ‏{‏نُرَدُّ‏}‏ على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحاً بمخالفة المضلين وقطعاً لاطماعهم الفارغة وإيذاناً بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره‏.‏

‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله‏}‏ أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل‏.‏ والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال‏:‏ بعد إذ اهتدينا كأنه قيل‏:‏ أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه‏.‏ وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر ولا أن جملة ‏{‏نُرَدُّ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏ندعو‏}‏ أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله كالذى استهوته الشياطين‏}‏ نعت لمصدر محذوف أي أنرد رداً مثل رد الذي استهوته الخ‏.‏

وقدر الطبرسي «أندعو دعاء مثل دعاء الذي» الخ وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل‏:‏ إنه في موضع الحال من فاعل ‏{‏نُرَدُّ‏}‏ أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك‏.‏ واعترضه صاحب «الفرائد» بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك‏:‏ جاء زيد راكباً أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب‏.‏

وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ فلا يلزم ذلك، ولا يخفى أنه في حيز المنع‏.‏ والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامه والقفار‏.‏ والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمه وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة‏.‏ وليس هذا مبنياً على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين‏.‏ وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال‏:‏ هوى يهوي هوياً بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل‏.‏ والمقصود «تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة‏.‏ ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏ وفيه بعد وإن قال الإمام‏:‏ إنه أولى من المعنى الأول» مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذى المعنى، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفرداً أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنساً‏.‏ والمراد الذين‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏استهواه‏}‏ بألف ممالة مع التذكير‏.‏

‏{‏ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ أي جنسها‏.‏ والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائناً في الأرض‏.‏ وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ حال منه أيضاً على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي» أو من المستكن في الظرف‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالاً من ‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع‏.‏

‏{‏لَهُ‏}‏ أي للمستهوي ‏{‏أصحاب‏}‏ أرى رفقة ‏{‏يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد زيد عدل والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً و‏{‏أصحاب‏}‏ مبتدأ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها‏.‏ وإما لا محل لها على أنها مستأنفة، وجملة ‏{‏يَدْعُونَهُ‏}‏ صفة لأصحاب‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏ يقدر فيه قول على أنه بدل من ‏{‏يَدْعُونَهُ‏}‏ أو حال من فاعله‏.‏

وقيل‏:‏ محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول‏.‏ وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك‏.‏ والمشهور التقدير أي يقول ائتنا‏.‏ وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق‏.‏ وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحق «بيناً» على أنه حال من الهدى أي واضحاً‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهؤلاء الكفار ‏{‏إِنَّ هُدَى الله‏}‏ الذي هدانا إليه وهو الإسلام ‏{‏هُوَ الهدى‏}‏ أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف‏.‏ وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر بعده ‏{‏وَأُمِرْنَا‏}‏ عطف على ‏{‏إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى‏}‏ داخل معه تحت القول، واللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِنُسْلِمَ‏}‏ للتعليل ومفعول ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم ‏{‏لِرَبّ العالمين‏}‏، وقيل‏:‏ هي بمعنى الباء أي أمرنا بالإسلام‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة، وقيل‏:‏ زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما‏:‏ الفعل في هذا وفي نحو ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏ مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام، وهو نظير تسمع بالمعيدى خير من أن تراه ولا يخفى بعده‏.‏ وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل‏:‏ وأمرنا أن نسلم، والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه‏}‏ أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة، وجوز أن يعطف ‏{‏أَنْ أَقِيمُواْ‏}‏ على موضع ‏{‏لِنُسْلِمَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ كأنه قيل‏:‏ أمرنا أن نسلم وأن أقيموا‏.‏ وقيل‏:‏ العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة، وقيل‏:‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ الخ أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا، وقيل‏:‏ على ‏{‏ائتنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال‏:‏ أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان «بأن الكافر ما دام كافراً كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغُيَّب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون» وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ أي هذين الأمرين العظيمين‏.‏ ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضاً، وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل ‏{‏خُلِقَ‏}‏ أي قائماً بالحق، ومعنى الآية حينئذ كما قيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏ وجوز أن يكون حالاً من المفعول أي متلبسة بالحق، وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقاً متلبساً بالحق‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق‏}‏ تذييل لما تقدم؛ والواو للاستئناف‏.‏ واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً و‏{‏قَوْلُهُ‏}‏ مبتدأ و‏{‏الحق‏}‏ صفته، والمراد بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أي وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت كما قيل، ونفى السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم لكونه الاستعمال الشائع‏.‏ وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏قَوْلُهُ الحق‏}‏ مبتدأ وخبر و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ظرف لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية، وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره‏.‏ والمراد بالقول كلمة ‏{‏كُنَّ‏}‏ تحقيقاً أو تمثيلاً‏.‏ والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية، وقيل‏:‏ إن الواو للعطف و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ إما معطوف على ‏{‏السموات‏}‏ فهو مفعول لخلق مثله، والمراد به يوم الحشر أي وهو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وأوجد يوم الحشر والمعاد، وإما على الهاء في ‏{‏اتقوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 72‏]‏ فهو مفعول به مثله أيضاً، والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك اليوم وعقابه فزعه‏.‏ وإما متعلق بمحذوف دل عليه ‏{‏ءادَمَ بالحق‏}‏ أي يقوم بالحق يوم الخ، وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان‏.‏ وقيل‏:‏ إنه معطوف على ‏{‏بالحق‏}‏ وهو ظرف لخلق أي خلق السموات والأرض بعظمها حين قال كن فكان‏.‏ والتعبير بصيغة الماضي احضار للأمر البديع‏.‏ وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف‏.‏ و‏{‏قَوْلُهُ الحق‏}‏ مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون‏.‏ والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين يقوم القيامة فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر وقيل غير ذلك فتدبر‏.‏

‏{‏وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ أي استقر الملك له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه‏.‏ والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم بحقيقته‏.‏ وقد فصلت أحواله في «كتب السنة»‏.‏ وصاحبه إسرافيل عليه السلام على المشهور‏.‏ وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً أن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان‏.‏ وقرأ قتادة «في الصور» جمع صورة والمراد بها الأبدان التي تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين‏.‏

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي كل غيب وشهادة ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في كل ما يفعله ‏{‏الخبير‏}‏ بجميع الأمور الخفية والجلية‏.‏ والجملة تذييل لما تقدم وفيه لف ونشر مرتب هذا‏.‏

ومن باب الاشارة في الآيات ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏ اعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب، أولاها غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى‏.‏ وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق‏.‏ وثالثتها غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلاً تفصيلاً علمياً كلياً وجزئياً في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ‏.‏ ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في اجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه‏.‏ وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه، وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضوراً فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو سبحانه‏.‏ وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز وجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء‏.‏ هذا وقد يقال‏:‏ حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصور مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهناً وخارجاً، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال‏:‏ إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علماً حضورياً غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى البر‏}‏ أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها ‏{‏البحر‏}‏ أي بحر القلوب من لآلىء الحكم ومرجان العرفان‏.‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ‏}‏ من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ في سائر أحوالها‏.‏ ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ‏}‏ من بذر الجلال والجمال ‏{‏فِى ظلمات الارض‏}‏ وهو عالم الطبائع والأشباح ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ‏}‏ من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج ‏{‏وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ وهو علمه سبحانه الجامع، وبعضهم لم يؤول شيئاً من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها، ويمكن أن يقال إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ أي ينيمكم وقيل‏:‏ يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت‏.‏ وقيل‏:‏ يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم‏}‏ أي كسبتم ‏{‏بالنهار‏}‏ من الأعمال مطلقاً، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة، وقيل الحسنة، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى ‏{‏ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى‏}‏ أي معين عنده ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في عين الجمع المطلق «ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر ‏{‏والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏ وهي القوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ قيل‏:‏ هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله‏}‏ في عين الجمع المطلق ‏{‏مولاهم‏}‏ أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به ‏{‏الحق‏}‏ وكل ما سواه باطل‏.‏

وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفاً نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقاً، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه ‏{‏أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏ إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد‏.‏ ‏{‏‏}‏ إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد‏.‏ ‏{‏قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر‏}‏ وهي الغواشي النفسانية ‏{‏والبحر‏}‏ وهي حجب صفات القلب ‏{‏تَدْعُونَهُ‏}‏ إلى كشفها ‏{‏تَضَرُّعًا‏}‏ في نفوسكم ‏{‏وَخُفْيَةً‏}‏ في أسراركم ‏{‏لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه‏}‏ الغواشي والحجب ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏ نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين ‏{‏قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا‏}‏ بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن يمن عليكم بالفناء ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ‏}‏ بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 64‏]‏ به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ فرقاً مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏ بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف ‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ‏}‏ أي ما ينبأ عنه ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ أي محل وقوع واستقرار ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ حين يكشف عنكم حجب أبدانكم ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ لأنهم محجوبون مشركون ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ‏}‏ وهم المتجردون عن صفاتهم ‏{‏مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ أي من حساب هؤلاء المحجوبين ‏{‏مّن شَىْء ولكن ذكرى‏}‏ أي فليذكروهم بالزجر والردع ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 69‏]‏ يحترزون عن الخوض‏.‏

وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو الخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن سماع الإنذار وتأثيره فيهم ‏{‏وَذَكّرْ بِهِ‏}‏ أي بالقرآن كراهة ‏{‏أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ‏}‏ وهو شدة الشوق إلى الكمال

‏{‏وَعَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏ وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا ‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا أَيُّ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أعقابنا‏}‏ بالشرك ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله‏}‏ إلى التوحيد الحقيقي ‏{‏كالذى استهوته الشياطين‏}‏ من الوهم والتخيل ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض الطبيعة ومهامه النفس ‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ لا يدري أين يذهب ‏{‏لَهُ أصحاب‏}‏ من الفكر والقوى النظرية ‏{‏يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ الحقيقي يقولون ‏{‏ائتنا‏}‏ فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى الله‏}‏ وهو طريق التوحيد ‏{‏هُوَ الهدى‏}‏ وغيره غيره ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ بمحو صفاتنا ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ الحقيقية وهو الحضور القلبي‏.‏ قال ابن عطاء‏:‏ إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار ‏{‏واتقوه‏}‏ أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم ‏{‏وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 72‏]‏ بالفناء فيه سبحانه ‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات‏}‏ أي سموات الأرواح ‏{‏والارض‏}‏ أي أرض الجسم ‏{‏بالحق‏}‏ أي قائماً بالعدل الذي هو مقتضى ذاته ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ وهو وقت تعلق إرادته سبحانه القديمة بالظهور في التعينات ‏{‏قَوْلُهُ الحق‏}‏ لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان ‏{‏وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ وهو وقت إفاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة‏.‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت ‏{‏والشهادة‏}‏ أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ الذي أفاض على القوابل حسب القابليات ‏{‏الخبير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏ بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ نصب عند بعض المحققين على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم معطوف على ‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ لا على ‏{‏أَقِيمُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 72‏]‏ لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه السلام الذي يدعون أنهم على ملته موبخاً‏.‏

‏{‏لاِبِيهِ ءازَرَ‏}‏ على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم‏.‏ وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة، وهو بدل من «إبراهيم» أو عطف بيان عليه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء المعجمة‏.‏ وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارَح‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يازر واسم أمه مثلى‏.‏ وإلى كون آزر ليس اسماً له ذهب مجاهد‏.‏ وسعيد بن المسيب وغيرهما‏.‏ واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال‏:‏ إن ءازر لقب لأبيه عليه السلام‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ اسم جده‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ اسم عمه والعم والجد يسميان أبا مجازاً‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هو اسم صنم‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس والسدى ومجاهد رضي الله تعالى عنهم‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هو وصف في لغتهم ومعناه المخطىء‏.‏ وعن سلمان التيمي قال‏:‏ بلغني أن معناه الأعوج‏.‏ وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوازرمية‏.‏ وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منه صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى أن يقال‏:‏ إنه غلب عليه فألحق بالعلم‏.‏ وبعضهم يجعله نعتاً مشتقاً من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم‏.‏ ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل‏.‏ وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏ءازَرَ‏}‏ على النداء‏.‏ واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف حرف النداء إلا من الأعلام وحذفه من الصفات شاذ أي يا آزر‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ أي أتجعلها لنفسك ءالهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة ‏(‏الجنس‏)‏ باعتبار الوقوع‏.‏ وقرىء ‏{‏أأزراً‏}‏ بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو‏.‏

ومن قرأ بذلك قرأ ‏{‏أَن تَتَّخِذَ‏}‏ بإسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد ازراً على أنه اسم صنم ويكون ‏{‏تَتَّخِذَ‏}‏ الخ بياناً لذلك وتقريراً وهو داخل تحت الإنكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي الأجل القوة تتخذ أصناماً آلهة‏.‏ والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 139‏]‏ وجوز أن يكون حالاً أو مفعولاً ثانياً لتتخذ‏.‏

وأعرب بعضهم «ءازر» على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضاً أي أتعبد ءازر‏.‏ وجعل قوله سبحانه ‏{‏أَتَتَّخِذُ‏}‏ الخ تفسيراً وتقريراً بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا يفسر عاملاً كما تقرر عندهم‏.‏ والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن ءازر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلاً لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس ‏"‏‏.‏ وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه‏.‏ والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب‏.‏ وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشىء من قلة التتبع، وأكثر هؤلاء على أن ءازر اسم لعم إبراهيم عليه السلام‏.‏ وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وفيه إطلاق الأب على الجد أيضاً‏.‏

وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال‏:‏ الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية‏.‏ وفي الخبر «ردوا على أبي العباس» وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في «تفسيره» بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال‏:‏ لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه السلام من النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال‏:‏ حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما ألقوه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 69‏]‏ فكانت فقال عمه من أجلي دفعه عنه فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته‏.‏ وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم أن إبراهيم عليه السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسمعيل إلى مكة فنقلهما ودعا هناك فقال‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ إلى قوله‏:‏

‏{‏رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37، 41‏]‏ فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرءان بالكفر هو عمه حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا الاستغفار له أصلاً؛ فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازاً وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة‏.‏

ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بأن هذه دالة على أن عليه السلام شافهه بالغلظة والجفاء لقوله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ‏}‏ أي الذين يتبعونك في عباداتها ‏{‏فِى ضلال‏}‏ عظيم عن الحق ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء‏.‏ وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم‏.‏ وأيضاً إن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم‏.‏ وأيضاً الدعوة بالرفق أكثر تأثيراً فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم‏.‏ وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحياناً على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام‏:‏

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحياناً على من يرحم

وقال أبو العلاء المعري‏:‏

اضرب وليدك وادلله على رشد *** ولا تقل هو طفل غير محتلم

فرب شق برأس جر منفعة *** وقس على شق رأس السهم والقلم

وقال ابن خفاجة الأندلسي‏:‏ نبه وليدك من صباه بزجره *** فلربما أغفى هناك ذكاؤه وانهره حتى تستهل دموعه

في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه فالسيف لا يذكو بكفك ناره *** حتى يسيل بصفحتيه ماؤه

وكون الرفق أكثر تأثيراً غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏ وأخرى ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏ نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أباً حقيقياً لإبراهيم عليه السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر‏.‏

والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم‏.‏ فقد نقل عنه الإمام أنه قال‏:‏ «إن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضاً صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون ‏(‏عنا‏)‏ بالسموات فلا جرم اتخذوا صوراً وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل المَلَك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة»، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب‏.‏ ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها‏.‏ ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للاله الأكبر إلا أنهم قالوا‏:‏ إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال العالم‏.‏ وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها‏.‏ ولما رأوها قد تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنماً من الجوهر المنسوب إليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها‏.‏ ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها ألبتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه ‏{‏لَهُ الخلق والامر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 45‏]‏ بعد أن بين أن الكواكب مسخرة‏.‏ وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالاً محضاً‏.‏ ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ إبراهيم عليه السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية‏.‏ وأنا أقول‏:‏ لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولاً وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ «حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم ‏(‏مآب‏)‏ من أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عِمْلاق ويقال عِمْلِيق بن لاوذ ‏(‏بن إرم‏)‏ بن سام بن نوح عليه السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم‏:‏ ما هذه التي أراكم تعبدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم‏:‏ ألا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه‏؟‏ فأعطوه صنماً يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته‏.‏

وقال ابن إسحق‏:‏ يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسمعيل عليه السلام وذلك أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفَسَحَ في البلاد إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة ‏(‏حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم‏)‏ حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الامم قبلهم من الضلالات»، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم‏}‏ هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضاراً لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة، وقيل‏:‏ إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء‏.‏ والإشارة إلى مصدر «نري» لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة‏.‏ وجوز كل، وقيل‏:‏ يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام‏.‏

‏{‏مَلَكُوتَ السموات والارض‏}‏ أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيراً آخر أدنى منه، «فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر، وهو كما قال الراغب مختص به تعالى» خلافاً لبعضهم‏.‏ وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات، وقيل‏:‏ العجائب التي في السموات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأَرَضون السبع فنظر إلى ما فيهن‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح وإما أن أقبضه إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت ‏"‏ وروي نحو موقوفاً ومرفوعاً من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافاً لمن توهمه، وقيل‏:‏ ملكوت السموات‏:‏ الشمس والقمر والنجوم‏.‏ وملكوت الأرض‏:‏ الجبال والأشجار والبحار‏.‏ وهذه الأقوال على ما قيل لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حساً كما ينبىء عنه التشبيه السابق‏.‏

وقرىء «تري» بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية‏.‏

‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين‏}‏ أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته، وبعضهم لم يلاخظ ذلك فقدر الفعل مقدماً لعدم انحصار العلة فيما ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بالفعل السابق، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل ‏(‏بها‏)‏ وليكون، واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سبباً للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السموات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجهاً كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل‏.‏